فصل: الفصل الحادي والعشرون في قصة يحيى بن زكريا عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل العشرون في قصة مريم وعيسى عليهما السلام:

كانت أم مريم جنة قد حنت إلى ولد، فكبر عليها امتناعه واستولى الكبر، فرأت يومًا طائرًا يغذو فرخًا فرحًا، فرجى أملها اليؤوس فرحًا فرجًا، فسألت عند هذه القضية ولديها ولدًا، فلما علمت بالحمل أكسبها السرور ولهًا، فوهبته بلسان النذر لمن وهبه لها، فقال القدر: يا ملك التصوير، صور الحمل أنثى، ليبين أثر الكرم في قبول الناقص.
فلما وضعتها وضعتها بأنامل الانكسار عن سرير السرور، فإن لسان التلهف لما ألقى على الفايت {إني وضعتُها أنثى} فجير كسرها جابر {فتقبلّلَها} وساق عنان اللطف إلى ساق زرعها، فربا في ربى {وأنبتها} فانطلقت بها الأم تأم بيت المقدس، فلبس القوم لامهم في حرب {يُلقون أقلامهم} فثبت قلم زكريا إذا وثبت الأقلام فكفتها وكفلها، فأراه المسبب غناها عن السبب. بآية {وجد عندها رزقًا} فرباها من ربها فنشأت لا ترى إلا ربها.
فانتبذت يومًا من أهلها، فأقبل نحو ذلك البري البري بريد {فأرسلنا} فتحصنت الحصان بحصن {إني أعوذ} فانزوى إلى زاوية {إنما أنا رسول ربك} وأخبرها بالتحفة في لفظ {ليهب} فأقيمت فأقيمت في مهب ريح الروح، فتنفست الكلمة من كمين الأمر، فنفخ جبريل في جنب الدرع جيب، فمرت المرأة حاملًا في الوقت، فلما علمت ألمت بما حمل عليها الحمل، فأخرجها الحياء الحي عن الحي، فلما فاجأها وقت الوضع، فاجأها المخاض إلى الجذع، تحيرت من وجود ولد، وما فجرت، فجرت عين الدمع، فصاح لسان الخفر، بلفظ الندب {يا ليتني مت قبل هذا} فأجابها الملك، عن أمر من ملك {أن لا تحزني} وأجرى لها في أواني الأوان سرى، كما وهب لها من الغلمان سرى فسرى عن سرها وجود الظهور، وأنس الظاهر، فسرا، وأريت آية تدل على من قدر القدرة في مقام {وهُزّي} فهزت جذم جذع مايل مثل الحطب، فتساقط عليها في الحال رطب الرطب، فأخذها الجوى، في إعداد الجواب، فقيل لها {كلي} كل الكل، إلى من له الكل، كنت بمعزل من وجود الولد، فكوني بمعزل من إقامة العذر، فالذي تولى إيجاده يقيم عذر العذرا، لا تعجبي من وجود حمل سافر عن أرض القدرة، فلم يصلح أن ينزل إلا بمنزل، أركانه على عمد {إن الله اصطفاك وطهركِ واصطفاكِ} فلما سكتت وسكنت، بعد أن قعدت وقامت، أقامت أيام النفاس فانقضت وفاتت {فأتت بها قومه تحمله} فنادوا من أندية التوبيخ، إذ ما شاهدوا قط أختها {يا أخت هارون} فأضجروا مريضًا قد ضنى من أنين {إني} على فراش {يا ليتني مت} فلما شارت أرى الرأي. أشارت إليه، فأخذت السنة تعجبهم تعج بهم {كيف نكلِّم} فكأنها قالت لهم: أنا طريق وهذا مر بي، والمسافر يسأل عن الطريق لا الطريق عن المسافر، فقام عيسى يمخض أوطاب الخطاب على منبر الخطابة، فأبرز بالمخض محض إبريز الإقرار {إني عبد الله} وأومى إلى وجوده من غير أب، في إشارة {وبرًا بوالدتي} وكانت واسطة عقده {ومبشرًا برسول}.
فلما تم له سن الشباب، جلس على باب المعجزة، يعطي العافية العافية، ويبرئ الأكمه والأبرص، فربما ألفى ببابه خمسين ألفًا يؤمونه في كل يوم، ولقد فرك الدنيا فطلقها أي تطليق، وأبغضها ولا كبغض الرافضي الصديق، فغزاها بجند الزهد بين مسرح وملجم، وفتك بها كما فتك بالتقى ابن ملجم، ما التفت إليها قط وجه عزمه، ولا صافحا يومًا كف قلبه، ولا غازلها يومًا لسان فكره فلم يعرف حقيقة ما حوى سوى الحواريين، فشمروا عن ساق العزائم، في سوق بدن الأبدان إلى منى المنى، تحن بلفظ {نحن أنصار الله} وكتبوا في عقد العقايد {آمنا بالله} فعدلوا بها إلى عدل {واشهد بأنّا مسلمون}.
ثم إن اليهود اجتمعوا في بيت {ومكروا} فزلزل عليهم بيد {ومكر الله} فدخل عيسى خوخة، فدخل خلفه ذو دخل فألقى عليه شبهه، فحاق بالمرء مرّ مراده، وصاح فيه حاكم القدر جود مراقيها.

.الفصل الحادي والعشرون في قصة يحيى بن زكريا عليه السلام:

لما قام زكريا عليه السلام بإقامة الإقامة لمريم، رأى وكيل الغيب يسبقه بالإنفاذ على يد القدرة في كنّ كن، وكان إذا خرج ثم جاء فاجأ ثم الثمار قد نمت، فكم قد ألفى الفاف الفاكهة الفايقة لا في حينها، فتلمح بعين زرقاء الفهم، فرأى نفقة الجارية جارية، وكيس الأسباب على ختمه، فصاح لسان الدهش {أنّى لكِ هذا} فأحالت الحال على المسبب {هو من عند الله} فنبهت هذه الآية راقد طمعه، بعد أن طال وسنه سبعين سنة، فسن على سنة وجهه ماء رجاء ماء آسن مما لم يتسنه وقام الدردح بعد أن تقعوس وتسعسع وعسى على باب عسى في محراب {دعا زكريا ربه} فسرى بسره سرًا، لئلا ينسب إلى فن من أفن، وكتب قصة {لا تذرني فردًا} وشكا ما شيك به مما حل من حل التركيب وشيكًا، في كلمات هن {وهن العظم مني} فلما أورد في قصته، ما يريد حملها بريد الرجاء، إلى من عود العود العود فكشف الجوى في الجواب، لله دره خدم حتى شاب، ثم طلب نابيًا على الباب، فأصبح ميت أمله بوجود يحيى، فمشى لمشاهدة وجه القدرة، وقد حال بينهما سفر العادات، إلى أن لفظ بلفظ {إني} وهتف به هاتف {هو عليَّ هيِّن} فسأل علمًا على ما يعلم به وجود الحمل، لحمل نفسه على الشكر، فوعد بسجن اللسان، مع سلامة اللسان، إلا عن ذكر الرحمن، ليكون حج نطقه مفردًا.
فلما ولد له يحيى، لم يبلغ مبلغ يافع، إلا وهو ولد نافع، كان صبا الصبا تميل بالصبيان ولا تهزه، فإذا قالوا له هلم بنا فلنلعب، قال: إنما خلقنا للتعب لا للعب، فقط له القدر قطًا من عصام العصمة ما قط لأحد، فما خطا إلى خطأ ولا هم، ولقد رمى الدنيا عن يد التمسك، وعلا عن فضولها على قلل التقلل، فكان عيش عيشه العشب، واقتنع بمسوك الحيوان عن السب والشف والمشبرق، وشغله عن رقش نقش القشيب والدمقس ما لف مما لفق، ولقد دوى في دو فؤاده غيم الغيم فغدا الغدق يدق إلى أن فاض قليب قلبه، فانقلبت عيناه بقلب كالعيون حتى فرت، فحفرت في أخدود الخدود مجرى، ولم يزل معول دمه يحفر ركية خده، حتى بدت فيه أضراس فيه، يا عجبًا من بكاء من ما عصى ولا هم، وضحك من كتابه بالذنوب قد ادلهم، فلما قارب الوفاة وفات العدو، علم من آفات النقل في المواطن المخصوصة، بوحش الوحشة، فتخلص فيها من أسد البلاء، كما حمى من ذنب الذنب {يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيًا}.

.الفصل الثاني والعشرون في قصة أهل الكهف:

كان رقم {كتب في قلوبهم الإيمان} قد علا على كهف قلوب أهل الكهف، فلما نصب ملكهم شرك الشرك، بان لهم خيط الفخ ففروا، وخرجوا من ضيق حصر الحبس إلى الفضاء فضاء لهم، فما راعهم في الطريق إلا راع وافقهم، فرافقهم كلبه، فأخذوا في ضربه لكونه ليسوا من ضربه، فصاح لسلط حاله لا تطردوني لمباينتي جنسكم، فإن معبودكم ليس من جنسكم، أنا في قبضة إيثاركم أسير، أسير إن سرتم، وأحرس إن نمتم، فلما دخلوا دار ضيافة العزلة، اضطجعوا على راحة الراحة من أرباب الكفر، فغلب النوم القوم {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا} وكانت الشمس تحول عن حلتهم لحراسة حلتهم من بلاء بلي، وأعينهم مفتوحة لئلا تذوب بأطباق الأطباق، ويد اللطف تقلب أجسادهم لتسلم من أفن عفن، وجرت الحال في كلبهم، على ما جرت بهم، فكأنه في شرك نومهم قد صيد {بالوصيد}.
فخرج الملك بجم جمعه في طلابهم فإذا بهم، فسد الباب وما وعى على وعاء مسك، فأضاع حتى ضاع بيد الملك في بيد الهلك، فانساب راع إلى سبسبهم، ففتح باب الكهف ليحوز الغنم، فهب الهواء فهب الراقد، فترنم أحدهم بلفظ {كم لبثتم} فأجابه الآخر {يومًا} ثم رأى بقية الشمس نقية فاتقى بالورع ورطات الكذب، فعاد يتبع أوب {أو بعض يوم} فلما قفلوا من سفر النوم إلى ديار العادة، زاد تقاضي الطبع بالزاد، فخرج رئيسهم في ثوب متنكر، فضلت معرفته المعاهد، فأقبل يتهم اليقظة، فمد إلى بايع الطعام باعه، فما باعه، وظن أنه قد وجد كنزًا، ولقد وجد كنز {وزدناهم هدى} فحمله القوم إلى الوالي، فقال إنه لمالي، فما لكم ومالي؟ كنا فتية أكرهنا على فتنة فخرجنا عشية أمس، فنمنا في باطن كهف، فلما انتبهنا خرجت لأبتاع للأتباع قوت القوت، فسار القوم معه في عسكر التعجب، فسمع إخوانه جلبة الخيل، في جلبة الطلب، فتجاوبوا بأصوات التوديع، وقاموا إلى صلاة مودع، فدخل تمليخا فقص عليهم نبأهم، فعادوا إلى مواضع المضاجع، فوافتهم الوفاة، وفات لقاؤهم وسدلت عليهم حجاب الرعب، كف {لو اطّلعت}.
إخواني ليس العجب من نائم لم يعرف قدر ما مر من يومه، وإنما العجب من نائم في يقظة عمره:
أما والله لو عرف الأنام ** لما خُلقوا لما غفلوا وناموا

لقد خُلقوا لِما لو أبصرته ** عيون قلوبهم ساحوا وهاموا

ممات ثم قبر ثم حشر ** وتوبيخ وأهوال عِظامُ

يوم الحشر قد خُلقت رجالٌ ** فصلوا من مخافته وصاموا

ونحن إذا أمرنا أو نهينا ** كأهل الكهف أيقاظ نيامُ

.الفصل الثالث والعشرون في بداية أمر نبينا ورضاعه صلى الله عليه وسلم:

خلق نبينا صلى الله عليه وسلم من أرضى الأرض أرضًا، وأصفى الأوصاف وصفًا، وصين آباؤه من زلل الزنا، إلى أن صدفت بتلك الدرة صدفة آمنة، فوثبت لرضاعه ثويبة، ثم قضت باقي الدين حليمة، فقام نباته مستعجلًا على سوقه، مستعجلًا قيام سوقه، فنشأ في حجر الكمال كما نشأ، فشأى من شأى منشأ.
قدمت حليمة والجدب عام في العام، فعرض على المرضعات فأبين لليتم، فراحت به حليمة إلى حلتها، فثاب لبنها ولبن راحلتها، فباتوا البركة روائه رواء، وهب على مباركهم نسيم نسمة مباركة، فلما ظعنت الظعاين أتت أتانها تؤم أمام الركب، فلما حلوا حللهم. كانت الرعاء تسرح فيعفرها سرحان الجدب، وراعي حليمة يعيد الغنم بالغنم.
فبينا الصبي مع الصبيان، هبت صبا الجبر بجبريل، فجاءه فجأة فشق عن القلب، ثم شقه وما شق عليه، فعلق بيده من باطية باطنه علقة، فقال هذا حظ الشيطان، وقد قطعنا علقه ثم أعاد قلبه بعد أن قَلَبَه، وما به قلبة، فبقي أثر المخيط في صدره، باقي عمره لإظهار سورة (ألم نشرح).
فلما بلغ ست سنين، ألوى الموت بالوالدة، فجد في كفالته الجد، ثم طلب الموت عبد المطلب، فما أبى الطالب، ولا اشتغل بأوصابه حتى أوصى به أبا طالب، فخرج به وقد زانه كالتاج تاجرًا، فتيمم باليتيم منزل تيماء، فرآه بحيراء ببحرته فقرأ سمات النبوة من شمايل {يعرفونه} فشام برق فضله فلاح من شيمة شامته، فقال لعمه: احفظ هذه الشامة من شامت.
وما زال نشره يضوع ولا يضيع، إلى أن تمخضت حامل النبوة في إبان التمام، وآثر الطلق طلاق الخلق، فتحرى غار حراء للفراغ فراغ إليه الملك، فأغار حبل الوصال في ذلك الغار، فأفاض عليه حلة {اقرأ} فأفاض إلى حلة {زمِّلوني} فسكّنت خديجة غلته، بعلة إنك لتصل الرحم ثم انطلقت به إلى ورقة فقرأ من ورقة سيماه نقش فضله، فتيقظ لفهم أمره إذ ناموا، فقال: هذا الناموس الذي نزل على موسى، ولقد عرفه الأحبار في الكنايس، والرهبان في الصوامع، وأنذر به الرئي وأخبر به التابع.
فكانت تسلم عليه قبل النبوة الأحجار، وتبشره بما أولاه مولاه الأشجار، وكان خاتم النبوة بين كتفيه، وسرايا الرعب تترك كسرى كالكسرة بين يديه، ألبس أهاب الهيبة وتوج تاج السيادة، وضمخ بأذكى خلوق أزكى الأخلاق، وأحل دار المداراة، واجلس على صفحة الصفح ولقم لقم لقمان الحكيم، ووضعت له أكواب التواضع، وأديرت عليه كؤوس الكيس متضمنة حلاوة الحلم، ختامها مسك النسك، وأعطى لقطع مفازة الدنيا جواد الجود، ونوول قلم العز فوقع على صحائف الكد، «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، كان يعود المريض، ويجيب دعوة المملوك، ويجلس على الأرض، ويلبس الخشن، ويأكل البشع، ويبيت الليالي طاويًا، يتقلب في قعر الفقر، ولسان الحال يناديه: يا محمد نحن نضن بك عن الدنيا لا بها عنك.
ولقد شارك الأنبياء في فضائلهم وزاد، أين سطوة {لا تذر} من حلم {اهد قومي} أين انشقاق البحر: من انشقاق القمر، أين انفجار الحجر من نبع الماء من بين الأصابع، أين التكليم عند الطور من قاب قوسين، أين تسبيح الجبال في أماكنها من تقديس الحصى في الكف، أين علو سليمان بالريح من ليلة المعراج، أين إحياء عيسى الأموات من تكليم الذراع، كل الأنبياء ذهبت معجزاتهم بموتهم، ومعجزة نبينا الأكبر، قائمة على منار {لأنذركم به ومن بلغ} تنادي {فأتوا بسورة من مثله} ولقد أعرب عن تقدمه من تقدمه، «آدم ومن دونه تحت لوائي» لو كان موسى وعيسى حيين ما وسعهما إلا اتّباعي، فإذا نزل عيسى صلى مأمومًا، لئلا يدنس بغبار الشبهة وجه «لا نبي بعدي».
فهو أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وخطيب الخلائق إذا وفدوا، ومبشر القوم إذا يأسوا، الأنبياء قد سكتوا لنطقه، والأملاك قد اعترفوا بحقه، والجنة والنار تحت أمره، والخزان داخلون في دائرة حكمه، وكلام غيره قبل قوله لا ينفع وجواب الحبيب له «قُل تُسمَع» فسبحان من فض له من الفضائل ما فضله، وكسب من حلل الفخر الجم ما جمله، جمع الله بيننا وبينه في جنته، وأحيانا على كتابه وسنته.